فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} أي جعلناها لكم قرارًا ومِهادًا، وهيأنا لكم فيها أسباب المعيشة.
والمَعايش جمع مَعيشة، أي ما يُتعيَّش به من المطعم والمشرب وما تكون به الحياة.
يُقال: عاش يَعِيش عَيْشًا ومَعاشًا ومَعِيشًا ومَعِيشة وعِيشَة.
وقال الزجاج: المَعِيشة ما يُتوصّل به إلى العيش.
ومعِيشة في قول الأخفش وكثيرٍ من النحويين مَفْعِلة.
وقرأ الأعرج: {مَعَائِشَ} بالهمز.
وكذا روى خارجة بن مُصْعَب عن نافع.
قال النحاس: والهمز لحن لا يجوز؛ لأن الواحدة معِيشة، أصلها معيِشة، فزيدت ألف الوصل وهي ساكنة والياء ساكنة، فلابد من تحريكٍ إذ لا سبيل إلى الحذف، والألف لا تحرّك فحرّكت الياء بما كان يجب لها في الواحد.
ونظيره من الواو مَنارة ومَناوِر، ومَقام ومَقاوِم: كما قال الشاعر:
وَإنِّي لقَوّامٌ مَقاوِمُ لم يكن ** جرير ولا مولى جريرٍ يَقُومها

وكذا مصيبة ومَصَاوِب.
وهذا الجيد، ولغة شاذة مصائب، قال الأخفش: إنما جاز مصائب لأن الواحدة مُعْتَلّة.
قال الزجاج: هذا خطأ يلزمه عليه أن يقول مقائم.
ولكن القول أنه مثل وسادة وإسادة، وقيل: لم يجز الهمز في مَعايش لأن المعيشة مَفْعِلة؛ فالياء أصلية، وإنما يهمز إذا كانت الياء زائدة مثل مدينة ومدائن، وصحيفة وصحائف، وكريمة وكرائم، ووظيفة ووظائف، وشبهه. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {ولقد مكناكم في الأرض} يعني ولقد مكناكم أيها الناس في الأرض، والمراد من التمكين التمليك وقيل: معناه جعلنا لكم فيها مكانًا وقرارًا أو قدرناكم على التصرف فيها {وجعلنا لكم فيها معايش} جمع معيشة يعني به جمع وجوه المنافع التي تحصل بها الأرزاق وتعيشون بها أيام حياتكم وهي على قسمين:
أحدهما: ما أنعم الله تعالى به على عباده من الزرع والثمار وأنواع المآكل والمشارب.
والثاني: ما يتحصل من المكاسب والأرباح في أنواع التجارات والصنائع وكلا مقسمين في الحقيقة إنما يحصل بفضل الله وإنعامه وإقداره وتمكينه لعباده من ذلك فثبت بذلك أن جميع معايش العالم إنعام من الله تعالى على عباده وكثرة الإنعام توجب الطاعة للمنعم بها والشكر له عليها ثم بين تعالى أنه مع هذا الإفضال على عباده وإنعامه عليهم لا يقومون بشكره كما ينبغي فقال تعالى: {قليلًا ما تشكرون} يعني: على ما صنعت إليكم وأنعمت به عليكم، وفيه دليل على أنهم قد يشكرون لأن الإنسان قد يذكر نعم الله فيشكره عليها فلا يخلو في بعض الأوقات من الشكر على النعم وحقيقة الشكر، تصور النعمة وإظهار ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَقَدْ مكناكم في الأرض}
لما أمر الله سبحانه أهلَ مكةَ باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيرِه وبيّن لهم وخامةَ عاقبتِه بالإهلاك في الدنيا والعذاب المخلّد في الآخرة ذكّرهم ما أفاض عليهم من فنون النعم الموجبةِ للشكر ترغيبًا في الامتثال بالأمر والنهي إثرَ ترهيبِ أي جعلنا لكم فيها مكانًا وقرارًا أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} المعايشُ جمعُ معيشةٍ وهي ما يُعاش به من المطاعم والمشاربِ وغيرِها، أو ما يُتوصَّل به إلى ذلك والوجهُ في قراءته إخلاصُ الياء وعن ابن عامرٍ أنه همزةٌ تشبيهًا له بصحائف ومدائن، والجعلُ بمعنى الإنشاء والإبداع، أي أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعِكم فيها أسبابًا تعيشون بها، وكلُّ واحد من الظرفين متعلقٌ به أو بمحذوف وقع حالًا من مفعوله المُنكّر، إذ لو تأخر لكان صفةً له وتقديمُهما على المفعول من أن حقهما التأخيرُ عنه لما مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بشأن المقدمِ والتشويقِ إلى المؤخر، فإن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لاسيما عند كونِ المقدم منبئًا عن منفعة للسامع تبقى مترقبةً لورود المؤخَّرِ فيتمكن فيها عند الورودِ فضلُ تمكّن، وأما تقديمُ اللامِ على في فلما أنه المنبئُ عما ذُكر من المنفعة فالاعتناءُ بشأنه أتمُّ والمسارعةُ إلى ذكره أهمّ.
هذا وقيل: إن الجعلَ متعدَ إلى مفعولين ثانيهما أحدُ الظرفين على أنه مستقر، قُدّم على الأول، والظرفُ الآخَرُ إما لغوٌ متعلقٌ بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالًا من المفعول الأولِ كما مر، وأنت خبيرٌ بأنه لا فائدةَ معتدٌّ بها في الإخبار بجعل المعايشِ حاصلةً لهم أو حاصلةً في الأرض، وقولُه تعالى: {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} أي تلك النعمةَ، تذييلٌ مَسوقٌ لبيان سوءِ حالِ المخاطبين وتحذيرِهم وبقيةُ الكلامِ فيه عينُ ما مر في تفسير قوله تعالى: {مَّا تَذَكَّرُونَ}. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَقَدْ مكناكم في الأرض}
ترغيب في قبول دعوة النبي عليه الصلاة والسلام بتذكير النعم إثر ترهيب.
وذكر الطيبي أن هذا نوع آخر من الإنذار فإنه جملة قسمية معطوفة على قوله سبحانه: {اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} [الأعراف: 3] على تقدير قل اتبعوا وقل والله لقد مكناكم، والمعنى جعلنا لكم في الأرض مكانًا وقرارًا.
وقيل: أقدرناكم على التصرف فيها فهو حينئذ كناية ورجحت هنا الحقيقة.
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب ونحوها أو ما تتوصلون به إلى ذلك، وهو في الأصل مصدر عاش يعيش عيشًا وعيشة ومعاشا ومعيشة بوزن مفعلة، والجمهور على التصريح بالياء فيها، وروي عن نافع {معائش} بالهمز وغلطه النحويون ومنهم سيبويه في ذلك لأنه لا يهمز عندهم بعد ألف الجمع إلا الياء الزائدة كصحيفة وصحائف وأما معايش فياؤه أصلية هي عين الكلمة لأنها من العيش وبالغ أبو عثمان فقال: إن نافعا لم يكن يدري بالعربية، وتعقب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة مأخوذة من الفصحاء الثقات والعرب قد تشبه الأصلي بالزائد لكونه على صورته، وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضًا.
وقول سيبويه: إنها غلط يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس، وكثيرًا ما يستعمل الغلط في كتابه بهذا المعنى.
والجعل بمعنى الإنشاء والإبداع وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إذ لو تأخر لكان صفة له؛ وتقديمهما على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه كما قال بعض المحققين للاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لاسيما عند كون المقدم منبئًا عن منفعة السامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن، وأما تقديم اللام على في فلما أنه المنبئ عما ذكر من المنفعة والاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم، وقيل: إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول، والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالًا من المفعول الأول كما مر، واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في الأخبار بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة في الأرض.
{قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} تلك النعمة الجسيمة، وهو تذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم قال الطيبي: والتذييل بذلك لأن الشكر مناسب لتمكينهم في البلاد والتصرف فيها كما أن التذكر في الجملة السابقة موافق للتمييز بين اتباع دين الحق ودين الباطل، وبقية الكلام في هذه الجملة على طرز ما مر في نظيرها فتذكر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)}
عطف على جملة: {ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلًا ما تذكرون} [الأعراف: 3] فهذا تذكير لهم بأن الله هو ولي الخلق، لأنّه خالقهم على وجه الأرض، وخالق ما به عيشهم الذي به بقاء وجودهم إلى أجل معلوم، وتوبيخ على قلّة شكرها، كما دلّ عليه تذييل الجملة بقوله: {قليلًا ما تشكرون} فإنّ النّفوس التي لا يزجُرها التّهديد قد تنفعها الذكريات الصّالحة، وقد قال أحد الخوارج وطُلب منه أن يخرج إلى قتال الحجّاج بن يوسف وكان قد أسدى إليه نِعمًا:
أأقَاتِلُ الحجّاجَ عن سلطانه ** بيدٍ تُقِرّ بأنَّها مَوْلاَتِه

وتأكيد الخبر بلام القسم وقد، المفيد للتّحقيقِ، تنزيلٌ للذين هم المقصود من الخطاب منزّلة من ينكر مضمون الخبر لأنّهم لما عَبدوا غير الله كان حالهم كحال من ينكر أنّ الله هو الذي مكَّنهم من الأرض، أو كحال من ينكر وقوع التمكين من أصله.
والتّمكين جعل الشّيء في مكان، وهو يطلق على الإقدار على التّصرف، على سبيل الكناية، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {مَكَّنَّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم} في سورة الأنعام (6) وهو مستعمل هنا في معناه الكنائي لا الصّريح، أي جعلنا لكم قدرة، أي أقدَرناكم على أمور الأرض وخوّلناكم التّصرف في مخلوقاتها، وذلك بما أودع الله في البشر من قوّة العقل والتفكير التي أهلته لسيادة هذا العالم والتّغلّب على مصاعبه، وليس المراد من التّمكين هنا القوّة والحكم كالمراد في قوله تعالى: {إنا مكنا له في الأرض} [الكهف: 84] لأنّ ذلك ليس حاصلًا بجميع البشر إلاّ على تأويل، وليس المراد بالتمكين أيضًا معناه الحقيقي وهو جعل المكان في الأرض لأنّ قوله: {في الأرض} يمنع من ذلك، لأنّه لو كان كذلك لقال ولقد مكناكم الأرضَ، وقد قال تعالى عن عاد: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه} [الأحقاف: 26] أي جعلنا ما أقررناهم عليه أعظم ممّا أقدرناكم عليه، أي في آثارهم في الأرض أمّا أصل القرار في الأرض فهو صراط بينهما.
ومعايش جمع معيشه، وهي ما يعيش به الحيّ من الطّعام والشّراب، مشتقّة من العيش وهو الحياة، وأصل المعيشة اسم مصدر عاش قال تعالى: {فإن له معيشة ضنكًا} [طه: 124] سمي به الشّيء الذي يحصل به العيش، تسمية للشّيء باسم سببه على طريقة المجاز الذي غلب حتّى صار مساويًا للحقيقة.
وياء {معايش} أصل في الكلمة لأنّها عين الكلمة من المصدر عَيْش فوزن معيشة مفعلة ومعايش مَفاعل، فحقّها أن ينطق بها في الجمع ياء وأن لا تقلب همزة.
لأن استعمال العرب في حرف المدّ الذي في المفرد أنّهم إذا جمعوه جمعًا بألف زائدة ردّوه إلى أصله واوًا أو ياء بعد ألف الجمع، مثل: مفَازة ومفاوِز، فيما أصله واو من الفوز ومعيبة ومعايب فيما أصله الياء، فإذا كان حرف المدّ في المفرد غير أصلي فإنّهم إذا جمعوه جمعًا بألف زائدة قلبوا حرف المد همزة نحو قِلاَدة وقلائِد، وعَجُوز وعجَائز، وصحيفَه وصحائف، وهذا الاستعمال من لطائف التّفرقه بين حرف المد الأصلي والمد الزّائد واتّفق القراء على قراءته بالياء، وروى خارجة بن مصعب، وحميد بن عمير، عن نافع أنّه قرأ: معائش بهمز بعد الألف، وهي رواية شاذة عنه لا يُعْبَأ بها، وقرئ في الشاذ: بالهمز، رواه عن الأعرج، وفي الكشاف نسبة هذه القراءة إلى ابن عامر وهو سهو من الزمخشري.
وقوله: {قليلًا ما تشكرون} هو كقوله في أوّل السّورة {قليلًا ما تذكّرون} [الأعراف: 3] ونظائره.
والخطاب للمشركين خاصة، لأنّهم الذين قَل شكرهم لله تعالى إذا اتّخذوا معه آلهة.
ووصف قليل يستعمل في معنى المعدوم كما تقدّم آنفًا في أوّل السّورة، ويجوز أن يكون على حقيقته أي إن شكركم الله قليل.
لأنّهم لمّا عرفوا أنّه ربّهم فقد شَكروه، ولكن أكثر أحوالهم هو الإعراض عن شكره والإقبال على عبادة الأصنام وما يتبعها، ويجوز أن تكون القلّة كناية عن العدم على طريقة الكلام المقتصد استنزالًا لتذكرهم.
وانتصب {قليلًا} على الحال من ضمير المخاطبين وما مصدريّة، والمصدر المؤول في محلّ الفاعل بقليلًا فهي حال سببيّة.
وفي التّعقيب بهذه الآية لآية: {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] إيماء إلى أنّ إهمال شكر النّعمة يعرّض صاحبها لزوالها، وهو ما دلّ عليه قوله: {أهلكناها}. اهـ.